[size=
18]الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، أما بعد:
أخي المسلم الحبيب:
هل خلوت بنفسك يوماً فحاسبتها عما بدر منها من الأقوال والأفعال؟ وهل حاولت يوماً أن تعد سيئاتك كما تعد حسناتك؟ بل هل تأملت يوماً طاعاتك التي تفتخر بذكرها؟! فإن وجدت أن كثيراً منها مشوباً بالرياء والسمعة وحظوظ النفس فكيف تصبر على هذه الحال، وطريقك محفوف بالمكارة والأخطار؟! وكيف القدوم على الله وأنت محمل بالأثقال والأوزار؟ قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 18 وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19،18]. وقال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ [الزمر:54].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ).
عبادة وخشية
وقد مدح الله تعالى أهل طاعته بقوله: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ 57 وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ 58 وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ 59 وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ 60 أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61،57].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: { سألت رسول الله عن هذه الآية فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: "لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون، ويتصدقون، ويخافون ألا يتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات" } [الترمذي وابن ماجه واحمد].
أخي المسلم: هكذا كان سلفنا الكرام، يتقربون إلى الله بالطاعات، ويسارعون إليه بأنواع القربات، ويحاسبون أنفسهم على الزلات، ثم يخافون ألا يتقبل الله أعمالهم. فهذا الصديق رضي الله عنه: كان يبكي كثيراً، ويقول: ابكوا، فإن لم تبكروا فتباكوا، وقال: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قرأ سورة الطور حتى بلغ قوله تعالى: إن عذاب ربك لواقع [الطور:7]. فبكى واشتد في بكاؤه حتى مرض وعادوه. وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخيفه، فيبقى في البيت أياماً يعاد، يحسبونه مريضاً، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء!!.
وقال له ابن عباس رضي الله عنهما: مصر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح وفعل، فقال عمر: وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر!!.
وهذا عثمان بن عفان ـ ذو النورين ـ رضي الله عنه: كان إذا وقف على القبر بكى حتى تبلل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير!!.
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان كثير البكاء والخوف، والمحاسبة لنفسه. وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى. قال: فأما طول الأمل فينسى الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق.
واعظ الله في القلب
عن النواس بن سمعان عن النبي قال: { ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيها أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داع يدعو يقول: يا أيها الناس!! اسلكوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداع يدعو على الصراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك! لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. فالصراط: الإسلام. والستور: حدود الله. والأبواب المفتحة: محارم الله. والداعي من فوق: واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم } [أحمد والحاكم وصححه الألباني].
فهلا استجبت ـ أخي المسلم ـ لواعظ الله في قلبك؟ وهلا حفظت حدود الله ومحارمه؟ وهلا انتصرت على عدو الله وعدوك، قال تعالى: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [فاطر:6].
عن خالد بن معدان قال: ما من من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيراً، فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما ما وعد الله بالغيب، وإذا أراد به غير ذلك، تركه على ما فيه ثم قرأ: أم على قلوب أقفالها [محمد:24].
فيا أخي الحبيب: لا تضيع أيامك، فإنها رأس مالك، فإنك ما دمت قادراً على رأس مالك قدرت على الريح، وإن بضاعة الآخرة كاسدة في يومك هذا، فاجتهد حتى تجمع بضاعة الآخرة في وقت الكساد، فإنه يجئ يوم تصير هذه البضاعة فيه عزيزة، فاستكثر منها في يوم الكساد ليوم العز، فإنك لا تقدر على طلبها في ذلك اليوم.
أقسام محاسبة النفس
محاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل ونوع بعده.
النوع الأول: محاسبة النفس قبل العمل فهو أن يقف العبد عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه. قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر.
النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل.
وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق الله تعالى، قلم توقعها على الوجه الذي ينبغي.
[size=24]وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور وهي:
1 - الإخلاص في العمل.
2 - النصيحة لله فيه.
3 - متابعة الرسول فيه.
4 - شهود مشهد الإحسان فيه.
5 - شهود منة الله عليه فيه.
6 - شهود تقصيره فيه.
فيحاسب العبد نفسه هل وفى هذه المقامات حقها؟
وهل أتى بها جميعاً في هذه الطاعة؟
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به[/size].
الأسباب المعينة على محاسبة النفسهناك أسباب تعين الإنسان على محاسبة نفسه وتسهل عليه ذلك منها:
1 - معرفته أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استرح من ذلك غداً، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً.
2 - معرفته أن ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل.
3 - النظر فيما يؤول إليه ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار، ودخول النار والحجاب عن الرب تعالى ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث.
4 - صحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم.
5 - النظر في أخبار أهل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح.
6 - زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدرك ما فاتهم.
7 - حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير فإنها تدعو إلى محاسبة النفس.
8 - قيام الليل وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات.
9 - البعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه.
10 - ذكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعله من أهل المحاسبة والمراقبة، وأن يوفقه لكل خير.
11 - سوء الظن بالنفس،فإن حسن الظن بالنفس ينسي محاسبة النفس، وربما رأى الإنسان ـ بسب حسن ظنه بنفسه ـ عيوبه ومساوئه كمالاً. [/size]