د. ديمة طارق طهبوب (منقول)
إن نظرة سريعة للإصدارات المرئية و المسموعة و المكتوبة و المنتديات الإلكترونية في ميدان العلاقات الزوجية في العقد الماضي تبرهن على وجود مشكلة واضحة في الحياة الزوجية، لم تظهر بهذا الوضوح في الأجيال السابقة، ربما للسبب الذي تسوقه جداتنا بقولهن "نُزعت البركة من حياتنا"!!
فعلى الرغم من أن حياتهم كانت أكثر عناء ومشقة لكنها كانت أكثر حميمية وعاطفية واستقراراً، بالطرق التي كانوا يعرفونها في زمانهم، وفيما زادت علومنا و فلسفتنا للأمور و مقدراتنا و كمالياتنا، لكن قلت مساحة الهناء والسعادة في حياتنا، و زادت مشاكلنا الزوجية وأصبحت حياتنا أكثر تكلفاً وأقل بساطة وأصبحت العلاقات الاجتماعية بيننا أكثر برودة وتصنعاً!!
وفي مناسبة حدّثت صديقات أختي المجتمعات فقلت لهن: "عليكن بصاحب الخلق والدين، كل مظاهر الحياة المادية تتقلب وتتغير ويبقى الدين صمام الأمان؛ فصاحب الدين يكرمك في حال الرخاء و لا يظلمك في حال الشدة". و لكنهن سُقْن لي قصصاً و روايات تدل على جهل و سوء و ظلم أزواج يُصنّفون على أنهم أصحاب دين، و للأسف كانت حقيقة الواقع في كثير من المواقف و الأمثلة مصيبة في تصنيف الناس لهم على أنهم أصحاب دين لكن المعرفة ظاهرية لم تتجاوز إلى المعرفة العملية: هل عاشرته هل سافرت معه هل عاملته بالدينار والدرهم، وهنا تكون قد خانتهم الحصافة والمعرفة الحقيقية..!!
مثل هذه المواقف تجعلنا نراجع حديث الرسول صلى الله عليه و سلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه و خلقه فزوجوه"، و نتساءل: لماذا فصل الرسول -عليه الصلاة و السلام- الدين عن الخلق، و هو الذي أوتي جوامع الكلم، و كان بإمكانه لو توافق معناهما أن يعبر عنهما بكلمة واحدة؟ أهو تأكيد مضاعف على أهمية الخلق الذي يعدل أهمية الدين في الزواج؟ أم تنبيه أن المرء قد يملك من عناصر الدين و يفتقر للخلق إذا لم يحسن بدءاً فهم الدين؟ أهو جمع بين الاعتقاد في القلب و هو الدين و المعاملة في الدنيا بحسن الخلق أم هو إشارة للرجال بالذات أن الدين ربما يعطيكم حقوقاً أكثر من النساء في ظاهر الأمر هي مسؤوليات مضاعفة في الحقيقة، و إن إساءة استخدام الحق يجعل من الرجل ظالماً دكتاتوراً لا زوجاً محباً يلوي أعناق النساء كما يلوي أعناق النصوص، بينما لو اجتمع الخلق مع الدين لأصبح ميزان الخيرية و التفاضل بقدر ما يقدمه الرجل لزوجته، لا بقدر ما ينتظر منها فـَ"خيركم خيركم لأهله"، فتصبح مفاهيم القوامة تكليفاً شديد الوطأة و الحساب لا تشريفاً في استعراض المكانة و العضلات.
لقد حمّلنا العصر و الحداثة و العولمة و الأزمات تبعات قاسية فتحت لنا مجالاً للتذمر و بكاء النفس و ندب الحظ؛ فالرجل يتذرع بسوء الأحوال الاقتصادية و أحوال العمل و الأمة، فيكون متنفسه الأول في أسرته و زوجته إما بتحميلهم جزءاً من اللائمة أو بتجاهل مسؤوليات المودة و الرعاية تجاههم؛ إذ يكفيه ما يعانيه من الطحن في دوامة العيش فلا مجال للاستماع لنصائح من نوع برامج البيوت السعيدة، و كيف تعبر عن حبك لزوجتك، و كيف تنشر السعادة في بيتك..الخ. و لو حاولت الزوجة حقن شيء من الحب و الرومانسية في الحياة الزوجية لكان الجواب مهلاً: نحن لم نعد مراهقين!! و كأن الحب و المودة له وقت مستقطع في الحياة لا شعور مستمر و طبيعة متجددة، و هذا سوء فهم لآية الزواج التي تتصدر دعوات الزفاف كأمر جرت عليه العادة دون أن تكون منهاج حياة للأزواج، و المتفكر في اختيار المولى سبحانه لكلمتي المودة و الرحمة في قوله في سورة الروم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً). يفهم الفرق بين الشعور القلبي العارض و هو الحب، و بين الشعور المنبثق عن السلوك العملي المستمر المقرون بالرحمة و هي المودة، و الدلالة على ذلك تفسير ابن عباس إذ قال: "المودة حب الرجل امرأته و الرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء، و ليست المودة و الرحمة لونا من الشفقة العارضة، و إنما هي نبع للرقة الدائمة، و دماثة الخلق، و شرف السيرة". إن التعذر بالفطرة الغليظة و الأوضاع السقيمة و كبر السن و الأولاد و غيرها من قوائم الأعذار الجاهزة أمر يسير، و لذلك نبهنا العلماء قائلين: لا تزال الأمة بخير ما لم يعذروا أنفسهم.
من السهل أن نسفه تصرفات النساء العربيات اللواتي تعلقن بالحب المدبلج في المسلسلات التركية و الغربية، و ننعته بالبله و السطحية و الخواء دون أن ندرس الأسباب التي ألجأت نساءنا إلى التعلق بمثل نور ومهند، والتي يكمن جزء منها في فقدان الشعور بالحب والتقدير في واقع حياتهن، والذي يزيد الطين بلة موقف كثير من الرجال والأزواج أن ليس بالإمكان أحسن مما كان، ومن لم يعجبها فلتضرب رأسها بالحائط ولتشرب ماء البحر..!!
و على الرغم من أن الحب أصل أصيل في ديننا وثقافتنا الإسلامية، إلاّ أننا نحجم عن تدارسه و الخوض فيه، فيما تتوجه النظم التعليمية الجديدة لاعتماد مناهج الثقافة الجنسية لأبنائنا، و هم لا يعرفون بداية كيف يحبون و يعاملون النساء ابتداء بأمهاتهم وأخواتهم و انتهاء بأزواجهم و بناتهم.. في المستقبل.
إن الحب أصل أصيل في ديننا و ثقافتنا، و لذلك جعل الله كمال العلاقة بين العباد وربهم ملخصاً بشعور المحبة "يحبهم و يحبونه". لماذا لم تكن مثلاً يقدرونه أو يتبعونه أو يخافونه؟ لماذا كانت المحبة هي اختيار رب العزة لوصف العروة الوثقى والحبل المتين بينه سبحانه وبين عباده؟ يقول المفسرون: إن كمال الاتباع والعمل لا يكون إلاّ بالمحبة؛ فهي ملاك تحصيل وبلوغ الدرجات العلا والمرتقى إلى كنف الله .
فطرة الرجال غليظة من الأعذار التي يقدمها الرجال حتى لا يقوموا بواجباتهم العاطفية تجاه أسرهم!! و نتساءل: هل تُنتظر العاطفة من يتيم ولطيم فقد أمه وأباه، وهما أول مدرسة تعلم الإنسان الحب، ولم يكن له إخوة ولا عضد ولا سند؟ يستوحش من ظلمة قلوب الخلق، فيتركهم للرعي وخلوة الغارات، ثم يخرج للدنيا ليغدقها بالحب والعاطفة رسولاً وزوجاً وأباً ومعلماً، ولقد علّم صلى الله عليه وسلم أن سيأتي رجال يفاخرون بالقسوة والغلظة، فدعاهم في حجة الوداع وهو يوطد آخر أركان الدين والدنيا ليعلنها مجلجلة أن "استوصوا بالنساء خيراً، فما أكرمهن إلاّ كريم وما أهانهن إلاّ ليئم".
كان يُقبّل السيدة عائشة -رضي الله عنها- بين عينيها ويسابقها ويمازحها ويشاكسها، وارتفعت روحه إلى الرفيق الأعلى وهو يستاك بسواك لينته له بريقها..!!
يا أيها الرجال العلم بالتعلم والحب بالتحبب، ومن يزرع الحب يحصده ومن يزرع القسوة والجلفاء يحصدهما، أو يحصد بحث زوجته عن حبٍّ وهميّ متلفز!!
لسنا بحاجة لاستيراد الرومانسية ولا لدبلجتها، ولكننا بحاجة إلى إحياء تراثنا الرومانسي والاقتداء به، لينطلق الرجال كل يوم من دثار بنات خديجة وعائشة ليواجهوا أعباء الدنيا ويقارعوا منغصاتها، فإذا كانت هذه الطريق، فنعمت الرومانسية وهنيئاً للمحبين .
و في ريقه من ريق عائشة..!!(عن الحب مرة أخرى)